فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان} الآية.
ت: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أن الناسَ قَدْ أَكْثَرُوا في قَصَصِ هذهِ الآيةِ بما لاَ يُوقَفُ على صِحَّتِه، وحكى الثعلبي في بعض الروايات؛ أنَّ سليمانَ عليه السلام لَما فُتِنَ، سَقَطَ الخَاتَمُ مِنْ يَدِه، وَكَانَ فِيه مُلْكُهُ، فأعاده إلى يده، فَسَقَطَ؛ وأَيْقَنَ بالفتنة، وأَنَّ آصِف بْنَ بَرْخِيَّا قال له: يا نبيَّ اللَّهِ، إنَّكَ مَفْتُونٌ؛ ولذلكَ لاَ يَتَمَاسَكُ الخَاتَمُ فِي يَدِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ فَفِرَّ إلى اللَّهِ تعالى تَائِبًا مِنْ ذَنْبِكَ، وَأَنَا أَقُومُ مَقَامَكَ في عَالَمِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى إلى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكَ، فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِبًا إلى رَبِّهِ مُنْفَرِدًا لِعِبَادَتِهِ، وأَخَذَ آصِفُ الخَاتَمَ، فَوَضَعَهُ في يدِه، فَثَبَتَ، وقيلَ: إن الجَسَدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} هُو آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وهو الذي عندَه عِلْمٌ مِن الكتَابِ، وأقام آصِفُ في ملكِ سليمانَ وعيالِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ الحسَنةِ، ويَعْمَلُ بِعَمَلِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يومًا إلى أَنْ رَجَعَ سليمانُ إلى منزله تائِبًا إلى اللَّه تعالى، ورَدَّ اللَّه تعالى عليه مُلْكَهُ، فأَقَامَ آصِفُ عن مجلسهِ، وجَلَسَ سليمانُ على كُرْسِيِّهِ، وأعادَ الخاتَمَ، وقالَ سَعِيدُ بن المسيِِّب: إن سليمانَ بنَ دَاوُدَ عليهمَا السلامُ احتجب عنِ الناسِ ثلاثةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: أَنْ يا سُلَيْمَانُ، احتجبت عنِ الناسِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، فَلَمْ تَنْظُرْ في أمُورِ عِبَادِي، ولم تُنْصِفْ مَظْلُومًا مِنْ ظَالِمٍ، وذكر حديثَ الخاتم كما تقدَّم، انتهى، وهذَا الذي نقلناه أشْبَهُ ما ذُكِرَ، وأَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ؛ واللَّه أعلم.
وقال عِيَاضٌ: قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان} معناه: ابتَلَيْنَاهُ، وابتلاؤه: هُو مَا حُكِي في الصحيحِ أنه قال: «لأَطُوفَنَّ الليلةَ على مِائَةِ امرأة كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجِاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فلم تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» الحديث، قال أصحابُ المعانِي: والشِّقُّ هو الجسدُ الذي أُلْقِيَ على كرسيه حين عُرِضَ عليه؛ وهي كانتْ عقوبتُهُ ومحنته، وقيل: بَلْ مَاتَ، وألْقِيَ على كُرْسِيِّهِ مَيِّتًا، وأما عَدَمُ استثْنَائِه، فأحْسَنُ الأجوبةِ عنه، ما رُوِيَ في الحديثِ الصحيح أَنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إنْ شَاءَ اللَّهُ»، ولاَ يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الإخباريُون من تَشَبُّه الشيطانِ به وتسَلُّطِهِ على مُلْكِهِ، وتصرُّفِه في أمَّتِه؛ لأن الشَيَاطِينَ لاَ يُسَلَّطُونَ على مِثْلِ هذا، وقد عُصِمَ الأنبياءُ من مثله، انتهى.
ت: قالَ ابن العربي: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} يَعني جسدَه لا أجْسَادَ الشَّيَاطينِ؛ كما يقولُه الضعفاءُ، انتهى من كتاب تفسير الأفعال له.
قال ابنُ العربيِّ في أحكامَه: وما ذكره بعضُ المفسِّرينَ مِنْ أن الشيطان أخذَ خاتَمَهُ، وجَلَسَ مجلسَه، وحَكمَ الخَلْقَ على لسانِه قولٌ باطلٌ قَطْعًا؛ لأن الشياطينَ لا يَتَصَوَّرُونَ بِصُوَرِ الأَنْبِيَاءِ؛ ولا يُمَكَّنُونَ من ذلك؛ حتى يظنَّ الناسُ أنَّهم مع نبيِّهم في حَقٍّ، وهم مَعَ الشياطينِ في بَاطِلٍ؛ ولو شاءَ ربُّكَ لوَهَبَ من المعرفةِ والدِّينِ لمنْ قَالَ هذا القولَ ما يَزَعُهُ عن ذِكْرِهِ، ويَمْنَعُهُ مِن أَنْ يَسْطُرَهُ في دِيوَان من بعده، انتهى.
وقوله: {وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ} الآية، قال ع: من المقطوعِ به أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلامُ إنما قَصَدَ بذلكَ قَصْدًا بِرًّا؛ لأن للإنسان أن يرغبَ من فضلِ اللَّهِ فيما لا يَنَالهُ أحدٌ؛ لاسيما بِحَسَبِ المَكَانَةِ والنبوَّةِ.
وقوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} الآية، كَانَ لسليمانَ كُرْسِيٌّ فيه جنودُهُ، وتأتي عليه الريحُ الإعصارُ، فَتَنْقُلُهُ من الأرضِ حتى يَحْصُلَ في الهواء، ثم تتولاَّهُ الرُّخَاءُ؛ وهي اللَّيِّنَةُ القويَّةُ لا تَأْتِي فيها دُفْعٌ مُفْرِطَةٌ فَتَحْمِلُهُ؛ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، {حَيْثُ أَصَابَ} معناه: حيثُ أراد؛ قاله وهْبٌ وغيره، قال ع: وَيُشْبِهُ أنَّ أَصَابَ معدى صَابَ يَصُوبُ، أي: حيث وَجَّه جنودَه، وقال الزَّجَّاج: معناه: قصدَ، قلت: وعليه اقْتَصَرَ أبو حيَّان؛ فإنه قال: أصاب: أي قَصَدَ؛ وأنْشَد الثعلبيُّ: المتقارب:.
أَصَابَ الكَلاَمَ فَلَمْ يَسْتَطِع ** فَأَخْطَا الجواب لَدَى المَفْصِلِ

انتهى.
وقوله: {كُلَّ بَنَّاءٍ} بَدَلٌ من {الشياطين} و{مُقْرَّنِينَ} معناه: مُوثَقِينَ؛ قد قُرِنَ بعضُهم ببعضٍ، و{الأصفاد} القيودُ والأغْلاَلُ، قال الحَسَنُ: والإشارةُ بقوله: {هذا عَطَاؤُنَا} الآية، إلى جميع ما أعطاهُ اللَّه سبحانه مِنَ الملكِ؛ وأمرَه بأن يَمُنَّ عَلى من يشاءُ ويُمْسِكُ عَمَّنْ يشاء، فكأنه وَقَفَهُ على قَدْرِ النِّعمة، ثم أباح له التصرُّفَ فيه بمشيئته؛ وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَوَهَبْنَا لِداود سليمان نِعْمَ العبد} وقُرئ نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولًا صريحًا لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجَّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} راجع إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قطعًا وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه {بالعشى} هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ {الصافنات} فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل: لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مرارًا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ. والصَّافنُ من الخيلِ: الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ، وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ يتَّفقُ إلا في العِراب الخُلَّصِ، وقيل: هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما. وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم {الجياد} جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل: الذي يجودُ عند الرَّكضِ، وقيل: وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعًا خِفافًا في جَريها. وقيل: هو جمعُ جيِّد. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل: أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل: خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يومًا بعد ما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقربًا لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل: لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيرًا منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره.
{فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافًا بما صدرَ عنه من الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندمًا عليه وتمهيدًا لما يعقبُه من الأمر بردِّها وعقرِها، والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخيرِ، وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لأنَّه بمعنى آثرَ لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخيرِ مفعولُه كأنَّه قيل: أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه، والخبرُ المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيرًا لتعلُّق الخيرِ بها قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يومِ القيامةِ». وقُرئ أنِّي {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهًا لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل: الضمير للصافنات أي توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه.
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام مقالةِ سليمانَ عليه السَّلامُ ومرمى غرضِه من تقديم ما قدَّمه ومَن لم يتنبه له مع ظهورِه توهَّم أنَّه متَّصل بمضمرٍ هو جوابٌ لمضمرٍ آخرَ كأنَّ سائلًا قال: فماذا قال سليمانُ عليه السَّلامُ فقيل قال: ردُّوها فتأمَّلْ والفاء في قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا} فصيحةٌ مفصحةٌ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها وإيذانًا بغاية سرعةِ الامتثالِ بالأمرِ أي فردُّوها عليه فأخذ يمسحُ السَّيفَ مسحًا {بالسوق والاعناق} أي بسوقِها وأعناقِها يقطعها من قولِهم مسحَ عِلاوتَه أي ضربَ عنقَه عنه وقيل: جعل يمسحُ بيدهِ أعناقَها وسوقَها حُبًَّا لها وإعجابًا بها وليس بذاكَ وقُرئ بالسُّؤُقِ على همز الواوِ لضمَّتها كما في أدؤُر وقرئ بالسُّؤوقِ تنزيلًا لضمَّةِ السِّينِ منزلة ضمَّه الواوِ وقُرئ بالسَّاق اكتفاءً بالواحدِ عن الجمعِ لأمنِ الالباسِ.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} أظهرُ ما قيل في فتنتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما رُوي مرفُوعًا أنَّه قال: «لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتِي كلُّ واحدةٍ بفارسٍ يجاهدُ في سبيلِ الله تعالى ولم يقُل إنْ شاءَ الله تعالى فطافَ عليهنَّ فلم تحمل إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءتْ بشقِّ رجلٍ، والذي نفسِي بيدِه لو قالَ إنْ شاء الله لجاهدُوا في سبيلِ الله فُرسانًا أجمعون» وقيل: وُلد له ابنٌ فاجتمعتِ الشَّياطينُ على قتلِه فعلم ذلكَ فكانَ يغذُوه في السَّحابِ فَما شعرَ به إلى أنْ أُلقي عَلَى كرسيِّه ميتًا فتنبَّه لخطئِه حيثُ لَم يتوكَّل على الله عزَّ وعَلاَ. وقيل إنَّه غَزَا صيدونَ من الجزائرِ فقتلَ ملكَها وأصابَ بنْتًا له تسمَّى جرادةَ من أحسنِ النَّاسِ فاصطفَاها لنفسِه وأسلمتْ وأحبَّها وكان لا يرقأُ دمعُها جَزَعًا على أبيها فأمرَ الشَّياطينَ فمثَّلوا لها صورتَه وكانت تغدُو إليها وتروحُ مع ولائدِها يسجُدن لها كعادتهنَّ في مُلكِه فأخبرهَ آصفُ بذلك فكسرَ الصُّورةَ وعاقَب المرأةَ ثم خرج وحدَهُ إلى فَلاَة وفُرش له الرَّمادُ فجلس عليه تائبًا إلى الله تعالى باكيًا متضرِّعًا وكانتْ له أمُّ ولدٍ يُقال لها أمينةُ إذا دخلَ للطَّهارةِ أو لإصابةِ امرأةٍ يعطيها خاتمه وكان ملكُه فيه فأعطاها يومًا فتمثَّل لها بصورتِه شيطانٌ اسمه صخر وأخذ الخاتمَ فتختَّم به وجلس على كُرسِّيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفَّذ حكمَه في كلِّ شيءٍ إلاَّ في نسائِه وغيَّر سليمانَ عن هيئتِه فأتى أمينةَ لطلبِ الخاتمِ فأنكرتْهُ وطردتْهُ فعرفَ أنَّ الخطيئةَ قد أدركتْهُ فكان يدورُ على البيوتِ يتكفَّفُ وإذا قال أنَا سليمانُ حثَوا عليه التُّرابَ وسبُّوه ثم عمد إلى السَّماكين ينقلُ لهم السَّمك فيعطونَه كلَّ يومٍ سمكتينِ فمكثَ على ذلك أربعينَ صباحًا عددَ ما عُبد الوثنُ في بيتِه فأنكر آصفُ وعظماءُ بني إسرائيلَ حكمَ الشَّيطانِ ثم طارَ اللعينُ وقذفَ الخاتمَ في البحرِ فابتلعتْهُ سمكةٌ فوقعتْ في يدِ سليمانَ فبقرَ بطنَها فإذَا هُو بالخاتمِ فتختَّم به وخرَّ ساجدًّا وعادَ إليه ملكه وجاب صخرةً لصخرٍ فجعلَه فيها وسدَّ عليه بأُخرى ثم أوثَقهما بالحديدِ والرَّصاص وقذفه في البحرِ وعلى هذا. فالجسدُ عبارةٌ عن صخرٍ سمِّي به وهو جسمٌ لا رُوحَ فيه لأنَّه تمثَّل بما لم يكن كذلكَ والخطيئةُ تغافلُه عليه الصَّلاةُ السَّلام عن حالِ أهلِه لأنَّ اتِّخاذَ التَّماثيلِ لم يكُن محظُورًا حينئذٍ، وسجودُ الصُّورةِ بغير علمٍ منه لا يضرُّه.
{قَالَ} بدل من أنابَ وتفسيره له {رَبّ اغفر لِى} أي ما صدرَ عنِّي من الزَّلَّةِ {وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} لا يتسهل له ولا يكونُ ليكونَ معجزةً لي مناسبةً لحالي فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا نشأَ في بيتِ الملكِ والنُّبوة وورثهما معًا استدعى من ربِّه معجزةً جامعةً لحكمهما أو لا ينبغي لأحدٍ أنْ يسلَبه منِّي بعد هذه السَّلبةِ أو لا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظمتِه كقولِك لفلان ما ليسَ لأحدٍ من الفضلِ والمالِ على إرادة وصف الملكِ بالعظمةِ لا أنْ لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان مُلكًا عظيمًا فخاف أنْ يُعطى مثلَه أحدٌ فلا يحافظُ على حدودِ الله تعالى. وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيد اهتمامِه بأمر الدِّينِ جريًا على سَننِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصَّالحين. وكون ذلك أدخلَ في الإجابةِ. وقُرئ ليَ بفتحِ الياءِ {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معًا لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضًا من أحكامِ وصفِ الوهَّابيةِ فقط.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} أي فذللناها لطاعتِه إجابةً لدعوتِه فعاد أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى ما كان عليهِ قبل الفتنةِ. وقُرئ الرِّياح {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} بيانٌ لتسخيرِها له {رُخَاء} أي لينةً من الرَّخاوةِ طيبة لا تزعزعُ وقيل: طيعةً لا تمنع عليه كالمأمورِ المنقادِ {حَيْثُ أَصَابَ} أي حيثُ قصدَ وأرادَ. حَكَى الأصمعيُّ عن العربِ أصابَ الصَّوابَ فأخطأَ الجوابَ {والشياطين} عطفٌ على الرِّيح {كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} بدلٌ من الشَّياطينَ {وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الاصفاد} عطفٌ على كلَّ بنَّاءٍ داخلٌ في حُكمِ البدلِ كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فصَّل الشَّياطينَ إلى عَمَلةٍ استعملهم في الأعمالِ الشَّاقةِ من البناء والغَوص ونحو ذلك وإلى مَرَدةٍ قرن بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ لكفِّهم عن الشرِّ والفسادِ. ولعلَّ أجسامهم شفَّافةٌ فلا تُرى صلبةً فيمكن تقييدُها ويقدرون على الأعمال الصَّعبة وقد جُوِّز أن يكون الإقرانُ في الأصفادِ عبارة عن كفِّهم عن الشُّرورِ بطريق التَّمثيلِ. والصَّفدُ القَيدُ وسُمِّي به العطاءُ لأنَّه يرتبط بالمنعمِ عليه وفرَّقوا بين فعليهما فقالُوا صفَده قيَّده وأصفدَهُ أعطاهُ على عكسِ وَعَد وأَوْعدَ.
وقوله تعالى: {هذا} الخ إمَّا حكايةٌ لما خُوطب به سيلمانُ عليه السَّلامُ مبيِّنةٌ لعظمِ شأنِ ما أُوتي من الملكِ وأنَّه مفوَّضٌ إليه تفويضًا كلِّيًا وإما مقولٌ لقولٍ مقدَّرٍ هو معطوفٌ على سخَّرنا أو حالٌ من فاعلهِ كما مرَّ في خاتمةِ قصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ أي وقُلنا له أو قائلين له هذا الأمرُ الذي أعطيناكَه من المُلكِ العظيمِ والبسطةِ والتَّسلطِ على ما لَم يُسلَّطُ عليه غيرُك {عَطَاؤُنَا} الخاصُّ بك {فامنن أَوْ أَمْسِكْ} فأعطِ مَن شئتَ وامنْع مَن شئتَ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من المستكنِّ في الأمرِ أي غير محاسب على منِّه وإمساكهِ لتفويضِ التَّصرف فيه إليك على الإطلاقِ أو من العطاءِ أي هذا عطاؤنا مُلتبسًا بغير حسابٍ لغاية كثرتِه، أو صلةٌ له وما بينهما اعتراضٌ على التَّقديرينِ، وقيل: الإشارةُ إلى تسخير الشَّياطينِ والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ الإطلاقُ والتَّقييدُ {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} في الآخرةِ مع ما له من المُلك العظيمِ في الدُّنيا {وَحُسْنُ مَئَابٍ} هو الجنَّةُ قيل: فُتن سليمانُ عليه السَّلامُ بعد ما ملكَ عشرين سنةً وملك بعد الفتنةِ عشرينَ سنة. وذكر الفقيهُ أبوُ حنيفةَ أحمدُ بنُ داودَ الدِّيْنَوَريُّ في تاريخه أنَّ سُليمان عليه السَّلامُ ورثَ ملكَ أبيهِ في عصرِ كيخسرو بن سياوش وسارَ من الشَّامِ إلى العراقِ فبلغ خبُره كيخسرو فهربَ إلى خُراسانَ فلم يلبثْ حتَّى هلكَ ثمَّ سارَ سُليمانُ عليه السَّلامُ إلى مروٍ. ثمَّ إلى بلادِ التُّركِ فوغل فيها ثم جازَ بلادَ الصِّين ثم عطفَ إلى أنْ وافى بلادَ فارسٍ فنزلها أيّامًا ثم عاد إلى الشَّامِ ثمَّ أمرَ ببناءِ بيتِ المقدسِ فلَّما فرغَ منه سار إلى تهامةَ ثم إلى صنعاءَ وكان من حديثِه مع صاحبتِها ما ذكرَه الله تعالى وغَزا بلادَ المغربِ الأندلسِ وطنجةَ وغيرَهما والله تعالى أعلمُ. اهـ.